الدعوى رقم 49 لسنة 17 قضائية المحكمة الدستورية العليا “دستورية”
العدالة الجنائية
إن الدستور أعلى قدر الحرية الشخصية، فاعتبرها من الحقوق الطبيعية الكامنة في النفس البشرية، الغائرة في أعماقها، والتي لا يمكن فصلها عنها، ومنحها بذلك الرعاية الأوفى والأشمل توكيدا لقيمتها، وبما لا إخلال فيه بالحق في تنظيمها، وبمراعاة أن القوانين الجنائية قد تفرض على هذه الحرية – بطريق مباشر أو غير مباشر – أخطر القيود وأبلغها أثرا. ويتعين بالتالي أن يكون إنفاذ القيود التي تفرضها القوانين الجنائية على الحرية الشخصية، رهنا بمشروعيتها الدستورية. ويندرج تحت ذلك، أن تكون محددة بصورة يقينية لا التباس فيها. ذلك أن هذه القوانين تدعو المخاطبين بها إلى الامتثال لها كي يدفعوا عن حقهم في الحياة، وكذلك عن حرياتهم، تلك المخاطر التي تعكسها العقوبة. ومن ثم كان أمرا مقضيا، أن تصاغ النصوص العقابية بما يحول دون انسيابها أو تباين الآراء حول مقاصدها، أو تقرير المسئولية الجنائية في غير مجالاتها عدوانا على الحرية الشخصية التي كفلها الدستور.
وحيث إن العدالة الجنائية في جوهر ملامحها، هي التي يتعين ضمانها من خلال قواعد محددة تحديدا دقيقا، ومنصفا، يتقرر على ضوئها ما إذا كان المتهم مدانا أو بريئا، ويفترض ذلك توازنا بين مصلحة الجماعة في استقرار أمنها، ومصلحة المتهم في ألا تفرض عليه عقوبة ليس لها من صلة بفعل أتاه، أو تفتقر هذه الصلة إلى الدليل عليها. ولا يجوز بالتالي أن تنفصل العدالة الجنائية عن مقوماتها التي تكفل لكل متهم حدا أدنى من الحقوق التي لا يجوز النزول عنها أو التفريط فيها، ولا أن تخل بضرورة أن يظل التجريم مرتبطا بالأغراض النهائية للقوانين العقابية.
وحيث إن الأصل في النصوص العقابية، أن تصاغ في حدود ضيقة narrowly tailored تعريفا بالأفعال التي جرمها المشرع، وتحديدا لماهيتها، لضمان ألا يكون التجهيل بها موطئا للإخلال بحقوق كفلها الدستور للمواطنين، كتلك التي تتعلق بحرية عرض الآراء وضمان تدفقها من مصادرها المختلفة، وكذلك بالحق في تكامل الشخصية، وأن يؤمن كل فرد ضد القبض أو الاعتقال غير المشروع. ولئن جاز القول بأن تقدير العقوبة، وتقرير أحوال فرضها، مما يدخل في إطار تنظيم الحقوق، ويندرج تحت السلطة التقديرية للمشرع، إلا أن هذه السلطة حدها قواعد الدستور. ولازمها ألا تكون النصوص العقابية شباكا أو شراكا يلقيها المشرع متصيدا باتساعها، أو بخفائها، من يقعون تحتها، أو لا يبصرون مواقعها. كذلك فإن الأصل في الجريمة، أن عقوبتها لا يتحمل بها إلا من أدين كمسئول عنها. وهي بعد عقوبة يجب أن تتوازن “وطأتها” مع طبيعة الجريمة موضوعها. بما مؤداه أن الشخص لا يزر غير سوء عمله، وأن جريرة الجريمة لا يؤخذ بها إلا جناتها، ولا ينال عقابها إلا من قارفها، وأن “شخصية العقوبة”، “وتناسبها مع الجريمة محلها”، مرتبطتان بمن يعد قانونا “مسئولا عن ارتكابها”. ومن ثم تفترض شخصية العقوبة – التي كفلها الدستور بنص المادة 66 – شخصية المسئولية الجنائية، وبما يؤكد تلازمهما. ذلك أن الشخص لا يكون مسئولا عن الجريمة، ولا تفرض عليه عقوبتها، إلا باعتباره فاعلا لها أو شريكا فيها.