الدعوى رقم 49 لسنة 17 قضائية المحكمة الدستورية العليا “دستورية”
أصل البراءة
إن القانون الجنائي وإن اتفق مع غيره من القوانين في تنظيمها لعلائق الأفراد سواء فيما بينهم أو من خلال روابطهم مع مجتمعهم، إلا أن القانون الجنائي يفارقها في اتخاذه العقوبة أداة لتقويم ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، وأن يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعيا ممكنا، فلا يكون الجزاء على أفعالهم مبررا إلا إذا كان مفيدا من وجهة اجتماعية، فإن جاوز تلك الحدود التي لا يكون معها ضروريا، غدا مخالفا للدستور.
وحيث إن الأصل في كل اتهام أن يكون جادا، ولا يتصور أن يكون الاتهام بالتالي عملا نزقا تنزلق إليه النيابة العامة بتسرعها أو تفريطها؛ وكان من البدهي أن الاتهام بالجريمة ليس قرين ثبوتها، ولا يعدل التدليل عليها؛ وكان الاتهام ولو قام على أسباب ترجح معها إدانة المتهم عن الجريمة، لا يزيد عن مجرد شبهة لم تفصل فيها محكمة الموضوع بقضاء جازم لا رجعة فيه سواء بإثباتها أو نفيها؛ وكان قضاء المحكمة الدستورية العليا قد جرى على أن القواعد المبدئية التي تقوم عليها المحاكمة المنصفة التي تطلبها الدستور بنص المادة 67 – سواء عند الفصل في كل اتهام جنائي أو في حقوق الشخص والتزاماته المدنية – وإن كانت إجرائية في الأصل، إلا أن تطبيقها في نطاق الدعوى الجنائية – وعلى امتداد حلقاتها – يؤثر بالضرورة على محصلتها النهائية؛ وكان من المقرر أن أصل البراءة يندرج تحت هذه القواعد باعتباره قاعدة أولية توجبها الفطرة التي جبل الإنسان عليها، وتقتضيها الشرعية الإجرائية، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية، وبوصفها مفترضا أوليا لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة، ليوفر بها لكل فرد الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل؛
وكان افتراض البراءة لا يقتصر على الحالة التي يوجد الشخص فيها عند ميلاده، بل يمتد إلي مراحل حياته حتى نهايتها، ليقارن الأفعال التي يأتيها، فلا ينفصل عنها باتهام جنائي أيا كان وزن الأدلة التي يؤسس عليها؛ وكان افتراض البراءة يمثل أصلا ثابتا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، وليس بنوع العقوبة المقررة لها؛ وكان هذا الأصل كامناً في كل فرد سواء أكان مشتبها فيه أم متهما باعتباره قاعدة جوهرية أقرتها الشرائع جميعها – لا لتكفل بموجبها الحماية للمذنبين – ولكن لتحقق بموجبها أصلا شرعيا مؤداه أن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة التي يتعين درؤها عن كل فرد تكون التهمة الموجهة إليه مشكوكا فيها أو مبناها أدلة لا يجوز قبولها قانونا؛ وكان الاتهام الجنائي – وعلى ضوء ما تقدم – لا يزحزح أصل البراءة ولا ينقض محتواه، بل يظل هذا الأصل مهيمنا على الدعوى الجنائية، بل قائما قبل تحريكها، ومنبسطا على امتداد مراحلها وأيا كان زمن الفصل فيها؛ وكانت التدابير التي حددها النص المطعون فيه، تنال جميعها من الحرية الشخصية لاتسامها بخصائص العقوبة وانطوائها على عبئها، وانصرافها إيلاما مقصودا، ولا تقابلها أفعال أثمها المشرع وحددها تحديدا دقيقا؛
وكان اتخاذ أحد هذه التدابير بناء على اتهام متلاحق في شأن شخص معين – ولو كان اتهاما جديا – مؤداه أنه صار مشتبها فيه – لا بناء على أفعال يتوافر لها خاصية اليقين التي تميز القوانين الجزائية – بل ارتباطا بخطورة إجرامية افترضها المشرع ووصمه بها؛ وكانت خطورته هذه – التي استنبطها المشرع من تعدد وقائع الاتهام – وإن لم تفض بعد إلي جريمة بالفعل، إلا أن المشرع أقام بها صلة مبتسرة بين ماضيه وحاضره، دامجاً بينهما، مستوجبا محاسبته عن تلك الحالة التي أنشأها، وقرنها بتتابع الاتهام، لتنحل إرهاصا بعودة الأشخاص الذين تعلق بهم مجال تطبيق النص المطعون فيه إلى الإجرام، بافتراض أنهم لا يعرفون لأقدامهم موقعها، ولا يقدرون للأمور عواقبها، وأن نزوعهم إلى الإجرام راجحا، حال أن مصائر الناس لا يجوز أن تعلق على غير أفعالهم التي يسألون عن حسنها أو قبحها؛
وكان اتهامهم ولو كان جديا ومتتابعا، لا يعدو أن يكون شبهة قد لا يكون لها من ساق، ولا يجوز بالتالي أن يردهم النص المطعون فيه جميعا إلى دائرة الخطورة الاجتماعية، ويلصقها دوما بهم، أيا كان مصير الاتهام الموجه إليهم، بل ولو قضى ببراءتهم، ليكون لغوا وافتئاتا على الحرية الشخصية في جوهر خصائصها، وهي بعد حرية لا يجوز تقييدها على خلاف أحكام الدستور التي لا تعتد إلا بالأفعال وحدها باعتبارها مناط التأثيم، ولأنها دون غيرها هي التي يجوز إثباتها ونفيها، وهي التي يتصور أن تكون محل تقدير محكمة الموضوع، وأن تكون عقيدتها بالبناء عليها.
ولا كذلك الخطورة الإجرامية التي لا تمثل سلوكا محددا أتاه الشخص، ولا تخالطها إرادة واعية يعبر بها عن قصد بلوغ نتيجة إجرامية بذاتها، بل تقوم في مبناها على افتراض تشريعي منتحل، مؤداه أن المتهمين جديا أكثر من مرة، قد شقوا على جماعتهم عصا الطاعة، وأنهم بالغون من أمرهم ما يدنيهم من العدوان عليها، وهو افتراض يباعد بينهم وبينها، لتنغلق أمامهم فرص الاندماج فيها.