الدعوى رقم 2 لسنة 15 قضائية المحكمة الدستورية العليا “دستورية”
حرية الإبداع
حيث إن الإبداع – علميا كان أم أدبيا أم فنيا أم ثقافيا – ليس إلا موقفا حرا واعيا يتناول ألوانا من الفنون والعلوم تتعدد أشكالها، وتتباين طرائق التعبير عنها، فلا يكون نقلا كاملا عن آخرين، ولا ترديدا لآراء وأفكار يتداولها الناس فيما بينهم – دون ترتيبها أو تصنيفها، أو ربطها ببعض وتحليلها -، بل يتعين أن يكون بعيدا عن التقليد والمحاكاة، وأن ينحل عملا ذهنيا وجهدا خلاقا، ولو لم يكن ابتكارا كاملا جديدا كل الجدة novelty، وأن يتخذ كذلك ثوبا ماديا – ولو كان رسما أو صوتا أو صورة أو عملا حركيا – فلا ينغلق علي المبدع استئثاراً، بل يتعداه إلى آخرين انتشارا، ليكون مؤثرا فيهم.
ومن ثم كان الإبداع في حياة الأمم إثراء لا ترفا، معمقا رسالتها في تغيير أنماط الحياة بها، بل هو أداة ارتقائها، لا ينفصل عن تراثها، بل يتفاعل مع وجدانها، كافلا تقدمها من خلال اتصال العلوم والفنون ببعضهما، ليكون بنيانها أكثر تكاملا، وحلقاتها أعمق ارتباطا، ومفاهيمها أبعد عطاءاً وحيث إن ما تقدم مؤداه، أن الإبداع في العلوم الفنون – أيا كان لونها – ليس تسليما بما هو قائم من ملامحها، بل تغييرا فيها تعديلا لبنيانها، أو تطويرا لها، ليؤكد المبدع بذلك انفراده بإحداثها، فلا يمكن نسبتها لغيره، إذ هو صانعها، ولأن العناصر التي يضيفها لا ينقلها بتمامها عن سواه، إنما تعود أصالتها إلي احتوائها على حد أدنى من عناصر الخلق التي تقارن الابتكار، فلا ينفصل عنها، بما يؤكد دلالتها على استقلال مبدعها بها، ويبلور نوع وعمق المشاعر التي تفاعل معها، مستثيرا من خلالها قوة العقل ومعطياتها of the mind The creative powers، فلا يكون نبتها إلا إلهاما بصيراً.
ويتعين على ضوء ما تقدم، أن يكون الإبداع محل تقدير الأمم على تباين مذاهبها وتوجهاتها، وأن تيسر الطريق إليه بكل الوسائل التي تملكها، فلا ينعزل حبيسا أو يتمحض لهوا أو ترفا، بل ينحل جهدا ذهنيا فاعلا، ونظرا متوثبا في تلك العلوم والفنون، يعيد تشكيلها، ويطرح أبعادا جديدة لها، كافلا ذيوع الحقائق التي تتعلق بتطوير عناصرها، ليكون نتاجها بعثا من رقاد، وثمارها حقا عائدا إلى المواطنين في مجموعهم، يملكونها ويفيدون منها، ينقلون عنها ويتأثرون بها، على أن يكون مفهوما أن الإبداع ليس بالضرورة إحياء كاملا أو مبتدءاً، ولا قفزا في الفراغ، بل اتصالا بما هو قائم إكمالا لمحتواه، وانتقالا بمداه إلى آفاق أرحب.
ومن المتصور بالتالي أن يكون الإبداع وئيداً في خطاه، وإن تعين دوما أن يكون نهجا متواصلا علي طريق يمتد أمدا، رانيا لآفاق لا تنحصر أبعادها، مبدداً مفاهيم متعثرة، متخذا من الابتكار – مهما ضؤل قدره – أسلوبا ثابتا، وعقيدة لا يتحول عنها، لا امتياز في الاقتناع بها، والدعوة إليها والحض عليها، لأحد على غيره، ليظل نهرا متجددا، ومتدفقا دون انقطاع.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن الدستور عزز حرية التعبير بتلك التي يقتضيها إجراء البحوث العلمية وإنماؤها على تباين مناهجها وأنماطها، ثم قرنها بالإبداع فنيا وأدبيا وثقافيا، وأكمل حلقاتها حين خول كل فرد – بنص مادته الثالثة والستين – أن يتقدم بظلاماته إلى السلطة العامة التي يكون بيدها رد ما وقع عليه من الأعمال الجائرة والتعويض عن آثارها على أساس من الحق والعدل.
ومن ثم كان الإبداع عملا إنشائيا إيجابيا، حاملا لرسالة محددة، أو ناقلا لمفهوم معين، مجاوزا حدود الدائرة التي يعمل المبدع فيها، كافلا الاتصال بالآخرين تأثيرا فيهم، وإحداثا لتغيير قد لا يكون مقبولا من بعض فئاتهم
وما ذلك إلا لأن حرية التعبير لا يجوز فصلها عن أدواتها، وأن وسائل مباشرتها يتعين أن ترتبط بغاياتها، فلا يعطل مضمونها أحد، ولا يناقض الأغراض المقصودة من إرسائها. ولا يتصور بالتالي أن يكون الإبداع على خلافها، إذ هو من مداخلها، بل أن قهر الإبداع عدوان مباشر عليها، بما مؤداه أن حرية التعبير عن الآراء ونشرها بكل الوسائل المنصوص عليها في المادة 47 من الدستور، إنما تمثل الإطار العام لحرية الإبداع التي بلورها بنص المادة 49 بما يحول دون عرقلتها، بل إنها توفر لإنفاذ محتواها وسائل تشجيعها. ليكون ضمانها التزاما على الدولة بكل أجهزتها.