مفهوم العدالة الاجتماعية
مفهوم العدالة الاجتماعية
يقوم مفهوم العدالة الاجتماعية Social justice على تحقيق الإنصاف لجميع أفراد المجتمع بحصولهم على فرص عادلة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وعرّفت الأمم المتحدة العدالة الاجتماعية أنها “التوزيع العادل والرحيم لثمار النمو الاقتصادي“.
تعتبر العدالة الاجتماعية نظرية سياسية فلسفية تتبنى ضرورة النظر إلى أبعاد تحقيق العدالة التي تتجاوز القوانين المدنية والجزائية أو الأعراف الأخلاقية التقليدية التي تهتم بعدالة السلوك الفردي، فيما تهدف العدالة الاجتماعية للتركيز على تحقيق علاقات عادلة بين الفئات والمجموعات المختلفة داخل المجتمع، وتقع مسؤولية تحقيق العدالة الاجتماعية على الحكومات والمنظمات غير الحكومية والأفراد في كل مجتمع.
نشأة مفهوم العدالة الاجتماعية تعود إلى أوائل القرن التاسع عشر، حيث كان محور العدالة الاجتماعية هو العدالة الاقتصادية وحقوق العمال وتوزيع الثروة للقضاء على التفاوت الطبقي، ليتوسع مفهوم العدالة الاجتماعية لاحقاً ويشمل أوجه عدم المساواة المختلفة بما فيها التمييز العرقي والإثني والتمييز على أساس النوع أو الفئة الاجتماعية.
قضايا العدالة الاجتماعية
تنقسم قضايا العدالة الاجتماعية إلى فئتين أساسيتين متداخلتين لا يمكن الفصل بينهما أو تحقيق واحدة دون الأخرى:
- التعامل الاجتماعي: تشمل تعامل الأفراد والجماعات مع مجموعة أو فئة اجتماعية معينة على أساس التحيزات الشخصية أو الأنماط والأحكام المسبقة، وعادةً ما تظهر قضايا العدالة الاجتماعية المرتبطة بالتحيّز في المعاملة من خلال التمييز على أساس:
- العرق.
- الجنس.
- العمر.
- الدين.
- الجنسية.
- التعليم.
- التوجه الجنسي.
- القدرة العقلية والجسدية.
- اللوائح الحكومية غير المتكافئة: حيث تعتبر القوانين واللوائح الحكومية من مصادر الظلم الاجتماعي عندما يتم بناؤها -عن قصد أو غير قصد- لإقصاء فئة اجتماعية أو حرمانها من حق الوصول إلى نفس الفرص التي يصل إليها أفراد الجماعات الأخرى، ومن الأمثلة على القوانين التي تفتح مجالاً للظلم الاجتماعي:
- قوانين الانتخاب والتصويت.
- قوانين الضابطة العدلية والتقاضي.
- قوانين التنمية البيئية.
- قوانين الرعاية الصحية.
- قوانين العمل.
- قوانين التعليم.
مبادئ العدالة الاجتماعية
- الإنصاف Equity: الإنصاف من أهم مبادئ العدالة الاجتماعية، ويختلف مفهوم الإنصاف عن مفهوم المساواة Equality، فالإنصاف أو العدالة مبدأ يأخذ بعين الاعتبار الحاجات المتباينة وكيفية تحقيقها للوصول لنتائج متساوية أو للحصول على ذات الفرص، أما المساواة فتعني حصول الجميع على نفس “الحجم أو الكمية”، حيث يعتبر تأمين فرص تعليمية لذوي الاحتياجات الخاصة تراعي حالتهم؛ من طرق تطبيق مبدأ الإنصاف في العدالة الاجتماعية.
من الأمثلة المهمة على الفرق بين العدالة والمساواة؛ ثلاثة أشخاص بأطوال مختلفة يحاولون الوصول إلى الثمار على شجرة، المساواة في هذه الحالة أن يقف الثلاثة على نفس الأرض -نفس المستوى- بالتالي لن يستطيع الأقصر أن يلمس الثمار، وسيعاني متوسط الطول للوصول إلى الثمار، فيما يتمكن الشخص الأطول من الحصول على الثمرة التي يريدها بسهولة.
أما العدالة والإنصاف تعني أن يتاح لكل شخص الوقوف على مستوى مناسب لطوله ليتمكن الثلاثة من الحصول على الثمار بنفس القدر، أو أن يمتلكوا جميعاً هذا الخيار على الأقل، انظر الصورة أعلاه. - الوصول Access: في الكثير من المجتمعات تجد بعض الفئات أو الجماعات صعوبةً في الوصول إلى الموارد الاجتماعية الأساسية مثل التعليم والطبابة والبيئة، حيث يعتبر مبدأ الوصول إلى الموارد بالتساوي من أهم مبادئ العدالة الاجتماعية، والذي ينادي بوصول جميع أفراد المجتمع وفئاته إلى نفس الموارد بشكل عادل، فعندما يكون التعليم متاحاً لفئات دون غيرها سينعكس ذلك على فرص العمل والأجور والبطالة والفقر للفئات المحرومة.
من السياسات التي تسعى لتطبيق الوصول العادل للموارد؛ التعليم المجاني الذي يزيل العقبات المالية أمام المحرومين، والتنمية العادلة التي تضمن وصول الجميع إلى بيئة مناسبة. - المشاركة Participation: لا يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية دون إتاحة فرصة المشاركة بصنع القرار للفئات المهمشة أو المحرومة، حيث يجب منح الفئات الاجتماعية الحق بالمشاركة في حلّ مشاكلهم مشاركةً فاعلة، والحق في إيصال صوتهم والتعبير عن أنفسهم، وقد نشهد حالات الإقصاء على مستوى الحكومات واللوائح القانونية، أو على مستوى التعامل المباشر بين الجماعات الفرعية.
- حقوق الإنسان Human Rights: احترام حقوق الإنسان شرط لازم لتحقيق العدالة الاجتماعية، حيث يجب النظر إلى حقوق الإنسان بوصفها ملازمة لجميع الأفراد بغض النظر عن فئتهم الاجتماعية أو الاقتصادية أو حالتهم التعليمية أو انتماءاتهم العرقية والدينية… ويتم ذلك من خلال تقديم حقوق الإنسان على أي اعتبارات أخرى في مختلف التفاعلات الاجتماعية، مثل التقاضي والترشح والانتخاب والطبابة والتعليم.
- التنوع Diversity: يعتبر فهم واحترام التنوع من المبادئ الخمسة الأساسية للعدالة الاجتماعية، حيث يسهم الاعتراف بالاختلاف والتسامح الاجتماعي مع التنوع حجر الأساس في تحقيق مبادئ العدالة الاجتماعية الأخرى، كما يضمن فهم واحترام التنوع وصولاً أوسع للفئات المهمشة والمحرومة، وفرصاً أكبر للتبادل الثقافي والمعرفي.
مقومات العدالة الاجتماعية وعناصرها
مقومات وعناصر العدالة الاجتماعية هي التي تسعى إلى تحقيق المبادئ الخمسة للعدالة الاجتماعية، وأبرز هذه المقومات:
- الاهتمام بقضايا الظلم الاجتماعي: من خلال فتح مصادر المعرفة للكبار والصغار لفهم معاناة الفئات المحرومة والمهمشة، والاقتراب أكثر من هذه الثقافات والتفاعل معها بشكل إنساني يساهم في تحقيق العدالة.
- حب الذات الاجتماعية واحترام الآخرين: يعتبر حب الذات الاجتماعية وفهمها من المقومات الأهم للعدالة الاجتماعية، وهو المدخل أيضاً لتحقيق احترام الآخرين وتقبل التنوع والاختلاف الذي يعتبر أيضاً من مقومات العدالة الاجتماعية الأساسية.
- الحركات والاجتماعية: تمثّل الحركات الاجتماعية المهتمة والمعنية أحد أبرز مقومات العدالة الاجتماعية، حيث تعمل هذه الحركات والمنظمات على تحقيق مبادئ العدالة الاجتماعية والضغط على المجتمع والحكومات لمنح الفئات المحرومة حقوقها والسماح لها بأداء واجباتها.
- مناهضة العنصرية: نبذ ومناهضة العنصرية من المقومات الأساسية لتحقيق العدالة الاجتماعية، وتتضمن مناهضة العنصرية والتمييز العنصري بكافة أشكاله من خلال التشريعات والقوانين ومن خلال التوعية بالاختلاف والتنوع وفتح الباب أمام التفاعل الإنساني الذي يضمن المعرفة ثم القضاء على أسباب العنصرية.
- تحقيق تكافؤ الفرص: من أهم مقومات العدالة الاجتماعية، ويعني تكافؤ الفرص أن يمتلك الجميع الحق في الحصول على الفرصة دون تمييز على أساس الفئة أو الطبقة، وعادةً ما تكون الحكومات المسؤول الأول عن تحقيق تكافؤ الفرص، لكن الجهات غير الحكومية والخاصة لها دور أيضاً في عدالة الفرص.
- التنمية العادلة: وتعتبر عدالة التنمية من مقومات العدالة الاجتماعية لأنها تحقق مبادئ المساواة والوصول، حيث يجب أن تحظى الفئات المهمشة والمحرومة في الأقاليم المهملة أو النائية على حقها من التنمية لتكون موازية للمناطق الأكثر حظاً.
- العدالة القضائية: عدالة التقاضي تكفل حق التقاضي العادل في المحاكم المختلفة باختصاصاتها ولجميع أفراد المجتمع دون أي اعتبارات خاصة، وفساد القضاء يقود إلى اتساع قضايا الظلم الاجتماعي، كما يغيب التقاضي العادل في الكثير من الدول حتى المتقدمة منها، فتتعرض بعض الفئات لظروف تقاضي مشددة، أو يتم التعامل مع فئات معينة بتساهل أكبر أمام القضاء.
- حفظ كرامة الإنسان: الحفاظ على الكرامة الإنسانية من مقومات العدالة الاجتماعية التي تسعى لتحقيق مبدأ حقوق الإنسان للجميع، ويشمل حفظ الكرامة الإنسانية احترام الخصوصية الفردية والاجتماعية للجميع، والحفاظ على كرامة الإنسان في المؤسسات المختلفة مثل السجون والمستشفيات ودور الرعاية والتعليم وغيرها.
- التعاون والتكافل: يجب أن تعمل المؤسسات الحكومية جنباً إلى جنب مع مؤسسات المجتمع المدني في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية، كما تعتبر التوعية الاجتماعية التي تهدف إلى تعزيز التكافل والتعاون الاجتماعي من أهم مقومات العدالة الاجتماعية.
- التوعية بأهمية العدالة الاجتماعية: والتي يجب أن تبدأ في المدارس والجامعات والمؤسسات الاجتماعية ذات التأثير، كما تعتبر التوعية بأهمية العدالة الاجتماعية من مهام كل إدارة في مكان العمل، ومن مهام الحكومات والإدارات المسؤولة.
-
نظريات العدالة الاجتماعية
على الرغم من الاتفاق حول مفهوم العدالة الاجتماعية، لكن الوسائل التي تقود إلى تحقيق العدالة المجتمعية محلّ خلاف بين الفلاسفة، وحدود دور الفرد والجماعة ودور الحكومات أيضاً من النقاط الخلافية، إليكم أبرز نظريات العدالة الاجتماعية:
- نظرية المنفعة: من أهم مؤسسي هذه النظري جيرمي بنثام وجيمس ميل في القرن التاسع عشر، تشير نظرية النفعية في العدالة الاجتماعية إلى أن المنفعة هي المقياس الأساسي للعدالة، فما يحقق أقصى قدر من المنفعة لأكبر قدر من الناس؛ يمثّل العدالة الحقيقية، وكل ما لا منفعة أو فائدة منه لا يمكن أن يكون عادلاً، فالتوزيع الاجتماعي العادل هو ما يقدم أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الأفراد.
- الكمالية الذاتية Self-Perfectionism: من روادها فرانسيس هربرت برادلي أهم مفكري ورواد نظرية الحماية الذاتية Self-protectionism، يعتقد برادلي أن العدالة الاجتماعية تتحقق عندما يقوم كل فرد بواجبه في موقعه، فالأساس للعدالة هو “المكان الذي يتواجد في الفرد وواجباته” فإذا قام كل فرد بواجباته -التي يكلفه بها المجتمع أو يختارها بنفسه ويلتزم بها- بأمانة وكفاءة؛ سيقود ذلك إلى تحقيق السعادة الفردية والاجتماعية والعدالة.
هذا يذكرنا بما ذهب إليه آدم سميث الاقتصادي الكبير في نظرية “اليد الخفية” التي تشير إلى أن سعي الفرد لمصلحته الشخصية يقود إلى تحقيق المصلحة العامة. - الماركسية Marxism: تعتبر الماركسية من أهم نظريات العدالة الاجتماعية في العصر الحديث، تشير الماركسية أن مشكلة الظلم الاجتماعي متجذرة في الهيكل الاقتصادي القائم على التفاوت والملكيات الكبيرة واستغلال الطبقة، فيما يضمن المجتمع الشيوعي تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال القضاء على الاستغلال الطبقي والملكيات الخاصة، فمع وجود المليكة الخاصة التي تعني وجود مالك وعامل لا يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية، وفق ماركس ومنظِّري الشيوعية.
- الوجودية Existentialism: تُحمّل النظرية الوجودية الفرد مسؤولية اختياراته الأخلاقية ومثله العليا، بالتالي تعتبر حرية الإنسان ثابتة لا يمكن انتزاعها بالقوانين أو الأنظمة الأخلاقية، هذا ما يجعل العدالة الاجتماعية مسؤولية لا يمكن التهرب منها أو التنازل عنها، وخيار يجب أن يلتزم به الفرد لأنه “مسؤول عن نفسه وعن الآخرين” حسب تعبير جان بول سارتر.
- نظرية راولز Rawls’ Theory: نظرية الفيلسوف الأمريكي جون راولز من نظريات العدالة الاجتماعية المعاصرة التي واجهت النظرية النفعية، حيث يرى راولز أن العدالة الاجتماعية تبدأ بمنح الأفراد أكبر قدر ممكن من الحرية، بشرط ألا تنتهك حرية أي عضو في المجتمع حرية عضو آخر، ثم لا يمكن التسامح مع عدم المساواة والتفاوت الاجتماعي إلّا إن كانت يصب في مصلحة الفئات الأقل حظاً وثراءً، ولا يمنع بأي حال تكافؤ الفرص بين الجميع في الوصول إلى السلطة.
- التحررية Libertarianism: ترفض هذه النظرية معظم نظريات العدالة الاجتماعية وتعارض المبدأ نفسه، وتنادي بالعودة إلى الفهم التقليدي للعدالة باعتبارها احترام القانون والحقوق الثابتة، فليس هناك من هو مسؤول عن توزيع المنافع الاجتماعية، إنما يتم ذلك بعملية غير نظمة وغير هادفة، فيما تسلب مساعي العدالة الاجتماعية حرية الأفراد، وتقود إلى البيروقراطية.
- الأمبدكارية Ambedkarism: هي من الحركات المناهضة للطبقية التي تستند إلى أفكار الفيلسوف والوزير الهندي Bhimrao Ramji Ambedkar، والذي قاد حركة تحرير المنبوذين اجتماعياً “Dalits”، وكان يرى أن الديموقراطية السياسية لا يمكن أن تكون دون ديموقراطية اجتماعية تعترف بالمساواة والحرية والأخوة كمبادئ للحياة.